الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} قوله تعالى{قل كل يعمل على شاكلته{ قال ابن عباس: ناحيته. وقال الضحاك. مجاهد: طبيعته. وعنه: حدته. ابن زيد: على دينه. الحسن وقتادة: نيته. مقاتل: جبلته. الفراء: على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه. وقيل. قل كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده. وقيل: هو مأخوذ من الشكل؛ يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي. قال الشاعر: فالشكل هو المثل والنظير والضرب. كقوله تعالى قلت: وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قلت: أسند البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبي إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله{ويسألونك عن الروح{ يقول: الروح ملك. وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثني أبو هران (1) قوله تعالى{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا{ اختلف فيمن خوطب بذلك؛ فقالت فرقة: السائلون فقط. وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم. وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود {وما أوتوا{ ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: المراد العالم كله. وهو الصحيح، وعليه قراءة الجمهور {وما أوتيتم{. وقد قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله فغلبوا. وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث: (كلا) يعني أن المراد {بما أوتيتم{ جميع العالم. وذلك أن يهود قالت له: نحن عنيت أم قومك. فقال: (كلا). وفي هذا المعنى نزلت {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا، إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا} قوله تعالى{ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك{ يعني القرآن. أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق. ويتصل هذا بقوله{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا{ أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه. {ثم لا تجد لك به علينا وكيلا{ أي ناصرا يرده عليك. {إلا رحمة من ربك{ يعني لكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك؛ فهو استثناء ليس من الأول. وقيل: إلا أن يرحمك ربك فلا يذهب به. {إن فضله كان عليك كبيرا{ إذ جعلك سيد ولد آدم. وأعطاك المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز. وقال عبدالله بن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون يوما وما معكم منه شيء. فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبدالرحمن وقد ثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا، نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة! قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب، فتصبح الناس كالبهائم. ثم قرأ عبدالله {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك{ الآية. قلت: قد {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} أي عونا ونصيرا؛ مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. نزلت حين قال الكفار: لو نشاء لقلنا مثل هذا؛ فأكذبهم الله تعالى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أول الكتاب والحمد لله. و{لا يأتون{ جواب القسم في {لئن{ وقد يجزم على إرادة الشرط. قال الشاعر: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا} قوله تعالى{ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل{ أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار؛ من الآيات والعبر والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين، والجنة والنار والقيامة. {فأبى أكثر الناس إلا كفورا{ يريد أهل مكة، بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت تبين الحق. قال المهدوي: ولا حجة للقدري في قولهم: لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادر عليه؛ لأن الكافر وإن كان غير قادر على الإيمان بحكم الله عليه بالإعراض عنه وطبعه على قلبه، فقد كان قادرا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل. {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} قوله تعالى{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا{ فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكة بنت عبدالمطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، كله لفظ ابن إسحاق. وذكر الواحدي عن عكرمة عن ابن عباس: فأنزل الله تعالى {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا{. {ينبوعا{ يعني العيون؛ عن مجاهد. وهي يفعول، من نبع ينبع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {تفجر لنا{ مخففة؛ واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد. ولم يختلفوا في تفجر الأنهار أنه مشدد. قال أبو عبيد: والأولى مثلها. قال أبو حاتم. ليست مثلها، لأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع، والتشديد يدل على التكثير. أجيب بأن {ينبوعا{ وإن كان واحدا فالمراد به الجمع، كما قال مجاهد. الينبوع عين الماء، والجمع الينابيع. وقرأ قتادة {أو يكون لك جنة{. {خلالها{ أي وسطها. {أو تسقط السماء{ قراءة العامة. وقرأ مجاهد {أو يسقط السماء{ على إسناد الفعل إلى السماء. {كسفا{ قطعا، عن ابن عباس وغيره. والكسف (بفتح السين) جمع كسفة، وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم. الباقون {كسفا{ بإسكان السين. قال الأخفش: من قرأ كسْفا من السماء جعله واحدا، ومن قرأ كسَفا جعله جمعا. قال المهدوي: ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرا، من كسفت الشيء إذا غطيته. فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا. وقال الجوهري. الكسفة القطعة من الشيء؛ يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف. ويقال: الكسفة واحد. قوله تعالى{أو تأتي بالله والملائكة قبيلا{ أي معاينة؛ عن قتادة وابن جريج. وقال الضحاك وابن عباس: كفيلا. قال مقاتل: شهيدا. مجاهد: هو جمع القبيلة؛ أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة. وقيل: ضمناء يضمنون لنا إتيانك به. {أو يكون لك بيت من زخرف{ أي من ذهب؛ عن ابن عباس وغيره. وأصله الزينة. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. وقال مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود {بيت من ذهب{ أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذي نرى. {أو ترقى في السماء{ أي تصعد؛ يقال: رقيت في السلم أرقى رقيا ورقيا إذا صعدت. وارتقيت مثله. {ولن نؤمن لرقيك{ أي من أجل رقيك، وهو مصدر؛ نحو مضى يمضي مضيا، وهوى يهوي هويا، كذلك رقي يرقي رقيا. {حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه{ أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا؛ كما قال تعالى {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} قوله تعالى{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى{ يعني الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه. {إلا أن قالوا{ قالوا جهلا منهم. {أبعث الله بشرا رسولا{ أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر. فبين الله تعالى فرط عنادهم لأنهم قالوا: أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة. {فأن{ الأولى في محل نصب بإسقاط حرف الخفض. و{أن{ الثانية في محل رفع {بمنع{ أي وما منع الناس من أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشرا رسولا. {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} أعلم الله تعالى أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة؛ لأنه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على ذلك وخلق فيهم ما يقدرون به، ليكون ذلك آية لهم ومعجزة. وقد تقدم في {الأنعام{ نظير هذه الآية؛ وهو قوله {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله {هل كنت إلا بشرا رسولا{: فمن يشهد لك أنك رسول الله. فنزل {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا{. {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا} قوله تعالى{ومن يهد الله فهو المهتدي{ أي لو هداهم الله لاهتدوا. {ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه{ أي لا يهديهم أحد. {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم{ فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح؛ {ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا، أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا} قوله تعالى{ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا{ أي ذلك العذاب جزاء كفرهم. {وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا{ أي ترابا. {أئنا لمبعوثون خلقا جديدا{ فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال{أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه{ قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والأجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا} قوله تعالى{قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي{ أي خزائن الأرزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. {إذا لأمسكتم خشية الإنفاق{ من البخل، وهو جواب قولهم ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا} قوله تعالى{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات{ اختلف في هذه الآيات؛ فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب؛ كما {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا} قوله تعالى{قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء{ يعني الآيات التسع. و{أنزل{ بمعنى أوجد. {إلا رب السماوات والأرض بصائر{ أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته. وقراءة العامة {علمت{ بفتح التاء، خطابا لفرعون. وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها {لقد علمتَ{، واحتج بقوله تعالى أي مخسور وخاسر، يعني في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد: أي ملعون. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس{مثبورا{ ناقص العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور؛ فسأل عنه قال. قال الرشيد قال المنصور لرجل: مثبور؛ فسألته فقال: حدثني ميمون بن مهران... فذكره. وقال قتادة هالكا. وعنه أيضا والحسن ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك؛ يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. وثبره الله ثبرا. قال ابن الزبعرى: الضحاك{مثبورا{ مسحورا. رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد{مثبورا{ مخبولا لا عقل له. {فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا، وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} قوله تعالى{فأراد أن يستفزهم من الأرض{ أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد؛ فأهلكه الله عز وجل. {وقلنا من بعده لبني إسرائيل{ أي من بعد إغراقه {اسكنوا الأرض{ أي أرض الشام ومصر. {فإذا جاء وعد الآخرة{ أي القيامة. {جئنا بكم لفيفا{ أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى واحد. قال الجوهري: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى {جئنا بكم لفيفا{ أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وقال الكلبي{فإذا جاء وعد الآخرة{ يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء. {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا} قوله تعالى{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل{ هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن. والكناية ترجع إلى القرآن. ووجه التكرير في قوله {وبالحق نزل{ يجوز أن يكون معنى الأول: أوجبنا إنزاله بالحق. ومعنى الثاني: ونزل وفيه الحق؛ كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه. وقيل الباء في {وبالحق{ الأول بمعنى مع، أي مع الحق؛ كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. {وبالحق نزل{ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد. وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل. {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} قوله تعالى{وقرآنا فرقناه{ مذهب سيبويه أن {قرآنا{ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرأ جمهور الناس {فرقناه{ بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: فصلناه. وقرأ ابن عباس وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي {فرقناه{ بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة؛ إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي {فرقناه عليك{. واختلف في كم نزل القرآن من المدة؛ فقيل: في خمس وعشرين سنة. ابن عباس: في ثلاث وعشرين. أنس: في عشرين. وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة. وقد مضى هذا في {البقرة{. {على مكث{ أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء. ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة. وأما على القول الأول فيكون {على مكث{ أي على ترسل في التلاوة وترتيل؛ قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج. فيعطي القارئ القراءة حقها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب. وأجمع القراء على ضم الميم من {مكث{ إلا ابن محيصن فإنه قرأ {مكث{ بفتح الميم. ويقال: مكث ومكت ومكث؛ ثلاث لغات. قال مالك{على مكث{ على تثبت وترسل. {ونزلناه تنزيلا{ مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم؛ ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا. {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} قوله تعالى{قل آمنوا به أو لا تؤمنوا{ يعني القرآن. وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير. {إن الذين أوتوا العلم من قبله{ أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ في قول ابن جريج وغيره. قال ابن جريج: معنى {إذا يتلى عليهم{ كتابهم. وقيل القرآن. {يخرون للأذقان سجدا{ وقيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين. وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود؛ وهو أظهر لقوله {من قبله{. {إذا يتلى عليهم{ يعني القرآن في قول مجاهد. كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا{سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا{. وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام؛ فنزلت الآية فيهم. وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {قبله{ عائد على القرآن حسب الضمير في قوله {قل آمنوا به{. وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله{إذا يتلى عليهم{. {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} دليل على جواز التسبيح في السجود. وفي {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} قوله تعالى{ويخرون للأذقان يبكون{ هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال: من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضا. والأذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين. وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللحى؛ أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على؛ تقول سقط لفيه أي على فيه. وقال ابن عباس{ويخرون للأذقان سجدا{ أي للوجوه، وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان. قال ابن خويز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن؛ لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه؛ فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه. ألا ترى إلى قوله: فإنما أراد: خر صريعا على وجهه ويديه. قوله تعالى{يبكون{ فيه دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالي، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفي كتاب أبي داود: وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. واختلف الفقهاء في الأنين؛ فقال مالك: الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح؛ وبه قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة. وقال ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة؛ لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين. {ويزيدهم خشوعا{ تقدم. {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} قوله تعالى{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى{ سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا (يا الله يا رحمن) فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين؛ قاله ابن عباس. وقال مكحول: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في دعائه: (يا رحمن يا رحيم) فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة. فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد؛ فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك. وقيل: كانوا يكتبون في صدر الكتب: باسمك اللهم؛ فنزلت قوله تعالى{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا{ رثى لها الشامت مما بها يا ويح من يرثى له الشامت الثاني: ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها{ قالت: أنزل هذا في الدعاء. الثالث: قال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك. قلت: وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود: من السنة أن تخفي التشهد؛ ذكره ابن المنذر. الرابع: ما روي عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يِسُر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي. إليه. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان؛ فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا؛ ذكره الطبري وغيره. [الخامس] ما روي عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل؛ ذكره يحيى بن سلام والزهراوي. فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل والفرائض، فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الأمرين جميعا. وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا. [وقول سادس] قال الحسن: يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر. وقال ابن عباس: لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس. عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} قوله تعالى{وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا{ هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه؛ تعالى الله عن أقوالهم. {ولم يكن له شريك في الملك{ لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته. {ولم يكن له ولي من الذل{ قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد؛ أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا. وقال الكلبي: لم يكن له ولي من اليهود والنصارى؛ لأنهم أذل الناس، ردا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الحسن بن الفضل{ولم يكن له ولي من الذل{ يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه. {وكبره تكبيرا{ أي عظمه عظمة تامة. ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر؛ أي صفة بأنه أكبر من كل شيء. قال الشاعر: تمت سورة الإسراء، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
|